اكتشف أنفاق تنظيم الدولة الإسلامية

كيف دمر تنظيم الدولة الإسلامية مسجداً لكنه كشف عن قصر عمره ٣٠٠٠ عام

مسجد على التل

كتابة آنت أدين وجيريمي بريستو

توجد في شرق الموصل تلة تُسمّى ”النبي يونس“.

تَعبَّد فيها الناس منذ قرون وبُنيّ عليها ديرٌ خلال فترة مبكرة من المسيحية. ثم، قبل أكثر من ستمئة عام تم تحويل الدير إلى ضريح إسلامي للنبي يونس.

نقش من كتاب "بلاد العالم" لروبرت براون 


نقش من كتاب "بلاد العالم" لروبرت براون 

في يوليو تموز ٢٠١٤، قام تنظيم الدولة الإسلامية بتفجير هذا الضريح وأعلن مسلحو التنظيم أن "النبي يونس" لم يعد مكاناً للتعبّد بل هو بدعة.

وانتشرت مشاهد تفجير الموقع في أنحاء العالم. كانت الرسالة واضحة: لا يوجد موقع مقدس، مهما علت مكانته، في مأمن من التفسير المتطرف للقرآن الذي يعتمده تنظيم الدولة الإسلامية.

لكن تدمير الموقع لم يضع نهاية لقصة هذه التلة الأثرية بل أثار أسئلة فضولية عن ماهية ما يوجد تحت أعمدة المسجد مباشرة.

في ربيع عام ٢٠١٨، أرسلت بي بي سي عربي فريقاً لتحري ما تخفيه مجموعة أنفاق باردة ومغبرة اكتُشِفت مؤخراً داخل التلة.

قام الفريق بالتقاط صورعالية الدقة لما عُثرعليه مستخدماً تقنية التصوير المساحي والقياس التصويري، وذلك في محاولة لفك رموز بعض الأسئلة التي ظلت بلا إجابات منذ التفجير

النبي

على أطراف ما كان في الماضي مدينة نينوى الصاخبة، عاصمة الإمبراطورية الآشورية، يقع ضريح النبي يونس الذي ورد ذِكره في القرآن والتوراة.

تقول الحكاية الواردة في كلا الكتابين المقدسين إن النبي يونس وصل إلى نينوى ليُحذر سكانها من دمار سيلحق بهم ما لم يتوبوا عن الذنوب التي اقترفوها.

نقش لغوستاف دوريه من الكتاب المقدس (١٨٨٦)

نقش لغوستاف دوريه من الكتاب المقدس (١٨٨٦)

يؤمن مسلمون كثر أن عظامَ النبي يونس محفوظة في هذا الموقع. حيث بُني لاحقاً ضريح يحمل اسمه. يُعتقد أن الضريح يحتوي أيضاً على سن الحوت الذي تقول الروايات الدينية إنه سبح ثلاثة أيام وهو يحمل يونس في بطنه.

تَعتبر الأديان الإبراهيمية الثلاثةُ يونس نبياً. وقد أَمّ ضريحَه عبر التاريخ زوار مسلمون ومسيحيون ويهود.

يقول علي الجُبوري مدير الدراسات الآشورية في جامعة الموصل: ”لطالما كان ضريح النبي يونس أحد أهم الأماكن الدينية والثقافية لدينا... عندما كان الناس يزورون التلة كان ذلك يتيح لهم رؤية أفضل أجزاء الموصل القديمة والحديثة“.

التدمير

في الرابع والعشرين من يوليو تموز عام ٢٠١٤، قام مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية بوضع متفجرات على الجدران الداخلية والخارجية للمسجد. أمر المسلحونَ المصلينَ بالمغادرة كما صدرت تعليمات للسكان بالابتعاد عن المبنى بما لا يقل عن ٥٠٠ متر.

في غضون ثوانٍ من التفجير تحول مرقد النبي يونس إلى أنقاض. كما طرد التنظيمُ المسيحيينَ من المدينة في مسعى لجعل الموصل أحادية العقيدة للمرة الأولى في تاريخها.

نشرت الدولة الإسلامية مقطع لتفجير ضريح النبي يونس في ٢٠١٤ 

نشرت الدولة الإسلامية مقطع لتفجير ضريح النبي يونس في ٢٠١٤ 

كان الحدثُ جزءاً من موجة تدمير طالت مواقع ورموزاً مقدسة في الموصل.

على بوابة "نركال" القريبة المؤدية لمدينة نينوى الأثرية، قام مسلحو التنظيم بطمس تمثال "لاماسو"، ذلك الكائن الأسطوري الذي كان يحرس القصور الآشورية. ثم قاموا بعدها بتفجير البوابة بكاملها.

استخدموا آلة ثقب الصخور مباشرة على وجهه الذي كانت تعلوه ابتسامةٍ وديعة.

أحد المبررات التي قدمها تنظيمُ الدولة الإسلامية لتدمير مرقد النبي يونس كان التشكيكَ في شرعيته. وقال أحد مقاتلي التنظيم لبي بي سي إن الضريح كان قبراً باباوات مسيحيين وأنه "من المحرم أن يُبنى مسجد على ضريح مزيف".

وتشير الأبحاث الأكاديمية بالفعل إلى أن النبي يونس غير مدفون هناك. بل إن المعروف أن هناك قبوراً عدة للنبي يونس في أنحاء مختلفة من العالم.

يقول الدكتور توماس كارلسون، الأستاذ المساعد في جامعة أوكلاهوما الأميركية ومؤلف كتاب "المسيحية في عراق القرن الخامس عشر"، إنه في زمن القرون الوسطى، ومع ضعف سبل التواصل بين المسافات المتباعدة، كان العديد من المشاهير القدماء يحصلون على عدة قبور في عدة مواقع.

حتى أن العظام التي يُعتقد أنها تعود للنبي يونس قد تكون في الحقيقة عظام لبطريرك في كنيسة الشرق يُدعى هينانيشو الأول، دُفن في الدير عام ٧٠١.

ولا يعرف علماء الآثار بعد ما إذا كانت عظام هينانيشو نجت من التفجير أم لا. إلا أنهم عثروا على آثار لم ترها عيون البشر منذ آلاف السنين.

القصر المطمور

تحت مرقد النبي يونس يوجد قصر مطمور كان مكاناً لإقامة ملوك آشوريين راحلين وقاعدة للجيوش الآشورية. يعود تاريخ القصر إلى القرن السابع قبل الميلاد على الأقل.

خلال خمسينيات القرن التاسع عشر عُثر للمرة الأولى على مؤشرات على احتمال وجود قصر تحت مرقد النبي يونس، وذلك خلال حفريات قام بها اثنان من علماء الآثار هما هنري لِيارد ومساعده موصلي المولد هرمزد رسّام.

نقش لهنري لِيارد (١٨٥١)

نقش لهنري لِيارد (١٨٥١)

وكان الاثنان قد وجها اهتمامهما إلى مرقد النبي يونس بعد أن اكتشفا أطلال قصر في كوينجك على الضفة الأخرى من نهر دجلة. ولكن قدسية الموقع حالت دون استكشاف المزيد. وقد كتب ليارد بمرارة قائلاً: "تعصُّب سكان الموصل يُحرّم محاولة استكشاف بقعة تحظى بتبجيل كبير نظراً لقداستها".

أجرت الحكومة العراقية بين عامي ١٩٨٩ - ١٩٩٠ حفريات في الموقع، الا أن تقصيها لم يقترب من الضريح خشية إلحاق ضرر بهيكله الأساسي. وكما حدث في سنوات ١٨٥٠، حذر الإمام من أن الضريح قد يتضرر جراء الحفريات.

ولكن عندما تمت استعادة شرقي الموصل من تنظيم الدولة الإسلامية في يناير كانون ثاني عام ٢٠١٧، عثر علماء الآثار على شيء غريب تحت أنقاض المسجد. عُثر على عدد أكبر من الأنفاق يفوق ما تم توثيقه من قبل. في الواقع كان هناك أكثر من خمسين نفقاً جديداً، بعضها لم يكن طوله يتعدى بضعة أمتار فيما تجاوز طول البعض الآخر العشرين متراً.

ووصف الدكتور بيتر ميغلَـس، الأستاذ المحاضر في جامعة هيدلبيرغ والذي شارك في البحث الأولى المتعلق بالأنفاق، حالة الأرض تحت المسجد قائلا إنها كانت مليئة بالحفر الى حدٍ بدت له وكأنها قطعة جبن سويسري.

ويبدو أن معظم هذه الأنفاق حُفرت باستخدام المعاول، إلا أنه يوجد مع ذلك ما يدل على استخدام حفار صغير. أكبر الأنفاق يبلغ ارتفاعه ثلاثة أمتار ونصف، فيما لا يتجاوز ارتفاع أصغرهم المتر الواحد.

التقارير الأولية أشارت إلى أن مقاتلي التنظيم حفروا هذه الأنفاق بأنفسهم الا أن بعض سكان شرقي الموصل قالوا لبي بي سي إن التنظيم استأجر بعض الأشخاص من المنطقة للقيام بالمهمة.

كان التنظيم يرغب في الاستيلاء على الآثار داخل الأنفاق. ويُعتقد أن بيع القطع الأثرية كان يُعد ثاني أكبر مصدر دخل للتنظيم بعد النفط.

تقول الدكتورة لمياء الكيلاني وِر، وهي باحثة مشاركة في قسم الشرق الأدنى والأوسط في كلية لندن للدراسات الشرقية والأفريقية، إن الأمر يشبه ما حدث في متحف الموصل، مشيرة إلى عمليات السلب من المتحف التي قام بها التنظيم عام ٢٠١٥. وتضيف الدكتورة لميا: "يبدو أنهم قاموا بسرقة كل ما يمكن حمله من مرقد النبي يونس بغية بيعه".

نُهب ما تحت مرقد النبي يونس بعناية، وذلك بغية الحفاظ على ما تم اكتشافه على ما يبدو. ومع ذلك يبدو أن بعض ما تم العثور عليه كان أكبر حجماً مما يمكن لمسلحي التنظيم أخذه معهم. بعض هذه القطع الكبيرة كانت منقوشة على جدران القصر ولعله لم يكن من الممكن إجتثاثها دون تهديد السلامة الهيكلية للأنفاق التي تم حفرها تحت التلة.

ثلاث نساء

في مارس آذار عام ٢٠١٨، عندما ولج صحافيو بي بي سي، محنيي الظهور، الى الأنفاق المظلمة تحت مرقد النبي يونس، لم يكن العديد مما تم اكتشافه على يد علماء الآثار قد أُزيل من الموقع.

إلى جانب قطع الحجر الجيري والجرار الصغيرة، كان هناك ما يقرب من ثلاثين لوحاً جيرياً يحمل أسماء ملِكين آشوريين هما أسرحدون وآشور بانيبال. كما كان هناك قالب من الطوب منقوش عليه اسم ملك يُدعى سنحاريب.

لكن الاكتشاف الأكثر إثارةً للدهشة كان زوجاً من النقوش، يُظهر كلٌ منها صفاً من النساء. إنه الاكتشاف الذي أثار أسئلةً أكثر مما قدم اجابات.

يعتقد الدكتور بول كولينز من متحف آشموليان للفن والآثار في أكسفورد أن تلك النقوش غير مسبوقة ويقول إنه لا يوجد ما يوازيها في مكان آخر. فالغالبية الساحقة من نقوش القصور الآشورية التي وجدت حتى الآن تظهر ذكوراً، مثل صور الملك الذي يسدد حربته نحو أسد أو الجيش الذي يعود للقصر بعد رحلة صيد.

من غير المألوف أن تجد شخصيات نسائية على هذا النطاق. فالنساء، إن ظـَهرنَ في النقوش أصلاً، يكنّ غالباً أسيرات كغنائم حرب أو يتم تصويرهن بنقوشٍ أقل حجماً لا تتخطى الخاصرة.

يقول الدكتور كولينز: بمعزل عن الأختام والقطع المعدنية، لا نعرف الكثير عن النقوش الآشورية خارج القصور الملكية التي تركزعلى الانتصارات العسكرية.

ويتابع: الصور المرتبطة بعالم الأديان، إذا كان هذا هو المقصود هنا، نادرة. وعادةً ما تُظهر الآلهة مرتبطة بالملك.

ما أدهش خبراء الفن الآشوري هو أن النساء في النقوش التي تم اكتشافها، بدلاً من ظهورهن بصور جانبية للوجه كما جرت العادة بالنسبة للمنحوتات الآشورية - يظهرن هنا بوجه كامل.

تقول الدكتورة إيمي غانسيل، الأستاذة المساعدة في جامعة سانت جونز في نيويورك: "العثور عليهن أمر مثير إلى حد لا يُصدّق... إنها المرة الأولى التي أرى فيها شيئاً كهذا".

على الرغم من أن البعض يعتقد أن التكرار والتصميم المتماثل يشير الى أن الشخصيات النسائية في النقوش هن إلهات، الا أن الدكتورة غانسيل لا تظن ذلك. فغياب القرون أو التاج الخاص، أي الرموز الشائعة المستخدَمة للتدليل على "المعبود" في الفن الآشوري يعني أن النقوش المصورة قد تكون لامرأة من بني البشر.

وترى الدكتورة غانسيل أن النساء ربما يمثلن أعضاء في العائلة الملكية أو نخبة المجتمع الذين تم تصويرهن يَحملن قرابين للإله، ربما ضمن طقوس خاصة. وتقول لبي بي سي: "الأمر مثير للاهتمام جداً، حيث يعني تصويرهن هنا أن المرقد كان يضم مكان عبادة خاصاَ بالنساء. إنه دليل آخر على الدور الذي لعبته النساء في المجتمع والدين الآشوريين. أمر فريد بحق!"

لم تُجرَ أي دراسة أكاديمية بعدُ حول ما تصوره النقوش. ومن المبكر استخلاص نتائج مهمة استناداً على ما عُثِر عليه في الأنفاق. ليس أقله لأن بعض الصور المنقوشة والكتابات عُثر عليها مقلوبةً رأساً على عقب، ما يوحي بأنها ربما أُخذت من مكان آخر.

الصور التي التقطها طاقم بي بي سي عربي توفر أفضل فرصة لمشاهدة تفاصيل تلك النقوش المدهشة.

لاماسو

إلى جانب نقوش النساء، عُثر في الأنفاق على صور الكائن الخرافي "لاماسو" أو الثور المجنّح. كان هناك أربع لوحات حجرية يَظهر عليها لاماسو، إلى جانب خامسة تُظهر بقاياه. وهذه المجسمات الحجرية الضخمة للثور المجنّح كانت توضع على مداخل القصور الآشورية لترويع الأعداء أو طرد الأرواح الشريرة. في اللغة الأكدية تعني كلمة "لاماسو" الروح الحامية. لاماسو له جسد ثور أو أسد وجناحي نسر ووجه إنسان. كانت كل اثنين من نقوش لاماسو التي عُثر عليها تقف مع بعضها وقد تم وضع وجوهها لتكون في مواجهة القادمين إلى المكان.

نقش لكائن اللاماسو (عام ١٨٥٠ بالتقريب)

نقش لكائن اللاماسو (عام ١٨٥٠ بالتقريب)


هناك عوامل عدة تدعو للنظر إلى تدمير تنظيم الدولة الإسلامية لتماثيل لاماسو في فبراير شباط ٢٠١٥ كصدىً لما تعرضت له مدن قديمة مثل نينوى من نهب وتهجير جماعي. عندما كانت جيوش العدو تقوم بتدمير مدن بكاملها، تدمير صور الملك فيها كانت طريقة فعالة لمحوه من التاريخ.

ولكن على الرغم من الطمس والتدمير العلني لتماثيل لاماسو، لم يفلح التنظيم في تحقيق هدفه. فعلى بعد مسافة قصيرة من النبي يونس وتحت ركام قبره، لا تزال توجد نقوش حجرية لتماثيل لاماسو لم يلمسها أحد ولم تُر بالعين البشرية منذ آلاف السنين. إكتشافها مؤخراً يُعد شهادة على أن قصة مرقد النبي يونس لم تُطوَ رغم جهود تدميرها.

إنتاج/ إخراج: نامق خشناو
كتابة: آنت أدين
بحث: لارا الجبالي
تصميم: أليس جرني
فنان 3D: فيليب جونكالفز
المؤثرات البصرية: جازمين بونشور
تصوير: نامق خشناو
مستشار علم الآثار: إيلي ملكي، جيريمي بريستو
إنتاج: روزي جارثويت
مستشارة شورتهاند: انا لوتشيا جونزالز

الصور: بي بي سي،Getty Images، Alamy، فيديو دعائي لتنظيم الدولة الإسلامية
تاريخ النشر ٢٢ نوفمبر ٢٠١٨

بني الموقع ببرنامج شورتهاند
جميع الصور خاضعة لحقوق النشر