القاهرة: الحياة داخل العشوائيات

هذا هو الجزء الثاني من "القاهرة: الخروج من العشوائيات" عن أسرع مدن العالم نمواً حيث يعيش حوالي 70٪ من سكانها في مناطق عشوائية.

في المناطق العشوائية ، لم يبن السكّان منازلهم فحسب، بل أقاموا مؤسسات دعم اجتماعية شديدة الفاعلية في أغلب الأحيان. فالعلاقات وطيدةٌ بين الناس حيث يدعمها الترابط الأسري والتاريخ المشترك، والتمسّك المتجذّر بالتقاليد والمكان.

فمن أشد أحياء المدينة فقراً خرجت ثقافة نابضة بالحيوية، أصبحت اليوم تشغل مساحةً تخطت محيطها الاجتماعي والطبقي. أغاني المهرجانات، المعروفة أيضاً بموسيقى 'الإليكترو شّعبي'، هي نوعّ من الموسيقى الالكترونيّة الرّاقصة التي خرجت لتعبر عن روح وثقافة الأحياء العشوائية والشعبية. دقّاتها المتكرّرة ومؤثراتها الصوتية وكلماتها المباشرة والصادمة للبعض حققت في السنوات الأخيرة انتشاراً هائلا بين الفقراء وغير المتعلمين وبين أبناء الطبقة الوسطى والأثرياء على حد سواء.

الشارع يرقص على إيقاع موسيقى "المهرجانات"


تتناول كلمات موسيقى المهرجانات الحياة في العشوائيّات بكل مفرداتها من صعوبات الحياة إلى روابط الصداقة والعلاقة بالجنس الآخر. عدم خضوع أغاني المهرجانات لقواعد ومؤسسات الإنتاج الموسيقي التقليدية منحت صانعيها حرية غير مسبوقة فأحيانا يسخرون من الثوابت الاجتماعية أو ينتقدون المؤسسات. 

تتكرر أنماط الرّوح المجتمعيّة لتلك الأحياء في مناطق مختلفة من المدينة.

مبنى ماسبيرو هو المقرّ الرئيسي لاتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري التابع للدولة الذي يقع على كورنيش النّيل على مقربة من ميدان التّحرير. يطلّ هذا المبنى أيضا على حي سكنيٍّ يعرف باسم مثلّث ماسبيرو.

يتكون الحي من منازل حجرية صغيرة تعود إلى مطلع القرن الماضي تتخللها أزقة ضيقة ومتشابكة. إنّه نمط آخر من العشوائيّات.

عاشت زينب البالغة من العمر 72 عاماً في مثلّث ماسبيرو لأكثر من ستّين عاماً. وهي تدفع عشرة جنيهاتٍ مصريّة (حوالي 60 سنتاً أمريكيّ) شهرياً بدل إيجار شقّة تقيم فيها مع ولديها وحفيديها.

يبدأ يوم عملها في الرابعة صباحاً حين تستيقظ لتبدأ إعداد حلوى الزلابية التي تبيعها في الحي أو في وسط المدينة.

حكايات من القاهرة

تقول زينب:"نعيش هنا جنباً إلى جنب."

"لو وقع لي شيءٌ ما، سيهب مئة شخص لمساعدتي"

في ظل الضغوطات الكثيرة في المجتمعات المكتظّة بالسّكان، يجد قاطنو العشوائيّات طرقهم الخاصّة للرّاحة والاستجمام.

في حي الكونيسة، على بعد سبعة كيلومتراتٍ جنوب غرب القاهرة، يحتشد حوالي نصف مليون شخص على أراضٍ كانت في الأصل زراعية. اصطحبنا أحد سكان الحي، واسمه وليد سعيد، لمشاهدة برج الحمام الذي شيده على سطح إحدى البنايات، بعيداً عن صخب وضجيج الحي. 

كيف يمكن الاسترخاء في مدينة لا تهدأ؟

أبراج الحمام

حالة ترقب

تقع جزيرة الورّاق شّبه الريفيّة على بعد ستّة كيلومتراتٍ شمال وسط القاهرة. وهي أيضا تشكل نمطاً آخراً من "العشوائيّات". المنازل الخشبيّة أو تلك المبنية بالطوب اللبن والمؤلّفة من أربعة طوابق تفتقد أغلبها إلى المياه النظيفة أو نظام صّرف صحّي سليم.

ترعى الماعز والأغنام في حقول الجزيرة في مشهد متناقض بشدة مع الأبراج العالية المطلة على ضفتي النيل من حولها. يعتمد معظم سكّان الوراق على الصّيد والزراعة كمصدر رئيسيّ للدخل. منتوجات الجزيرة تلبي جزءا من احتياجات الأسواق الغذائيّة في القاهرة.

استيقظ سكّان الورّاق فجر تاريخ 16 يوليو/تمّوز عام 2017 ليجدوا قوّات الأمن الحكوميّة تداهم المنطقة لهدم 700 مسكنٍ بدعوى أنّها "منشآتٌ غير قانونيّة".

حاول السّكّان إيقاف الجرّافات، فأطلقت عناصر الشرطة القنابل المسيّلة للدّموع. وفي الاشتباكات التي تلت ذلك، قُتل سيّد علي الجيزاوي، المعروف باسم سيد الطفشان، البالغ من العمر 26 عاما. أصيب عشرون آخرون بجروح.

قضية الوراق

مواجهاتٌ حادّةٌ كهذه باتت نادرةً في مصر منذ أن منعت الحكومة الاحتجاجات غير المصرّح بها عام 2013.

في غضون ساعاتٍ من الاقتحام، بدأ على وسائل التّواصل الاجتماعي تداولُ صور مبهرة لمخطط تغيير شاملٍ لجزيرة الورّاق . فقد قدّمت شركة الهندسة المعماريّة آر أس بي (RSP)، ومقرّها  سنغافورة، مخططا إلى الحكومة المصريّة في مارس/آذار عام 2013، يظهر الورّاق كمقاطعةٍ أشبه بمدينة دبي تزخر بناطحات السحاب وتحتوي على حوض سفنٍ (مارينا) وهرمٍ زجاجيٍّ كبير.

محتوى تفاعلي استخدم عنصر التحكم أدناه للمقارنة بين الصورتين.

المخطط المستقبلي لها (المصدر: RSP)

المخطط المستقبلي لها (المصدر: RSP)

جزيرة الوراق كما هي الآن (المصدر: Google Earth)

جزيرة الوراق كما هي الآن  (المصدر: Google Earth)

جزيرة الوراق كما هي الآن والمخطط المستقبلي لها. المخططات التي تم تسريبها على موقع تويتر كانت مقدمة في مارس/ آذار 2013 من قبل شركة سنغافورية للتخطيط المعماري تدعى RSP. المخطط أظهر الجزيرة على غرار مدينة دبي حيث تضمن ناطحات سحاب ومرسى لليخوت وهرما زجاجيا كبيراً.

أكّدت شركة آر أس بي (RSP) لاحقاً لبي بي سي (BBC) أنّها لم تعد مشاركة بمشروع إعادة إعمار جزيرة الورّاق، ولكنّ الشكّوك بشأن مستقبل الجزيرة لا تزال قائمة.

يؤكّد السكّان عدم تلقّيهم لأية إنذاراتٍ مسبقة بشأن عمليّات الهدم، وقدّموا وثائق تثبت ملكيّتهم لعقاراتهم في الجزيرة ولكن سرعان ما فشلت المحادثات مع الحكومة. في أغسطس آب عام 2017، باشر الرّئيس عبد الفتاح السيسي بنفسه قضيّة الورّاق من خلال وسيطٍ استثنائيّ: اللواء أركان حرب كامل الوزير رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.

أكد اللواء الوزير في نوفمبر تشرين ثاني 2017 إنه 'لن يكون هناك أي تهجير قسري' وإنه سيتم اعتماد مبالغ مالية لتعويض السكان الذين سغادرون مساكنهم 'بالتراضي' وأن التعويضات ستكون 'بالمتر وبالقيراط'.  

منذ تولّي الرئيس السّيسي السّلطة عام 2013، فضّل تسليم إدارة مشاريع البنية التّحتيّة الرئيسيّة إلى القوّات المسلّحة بدلا من الاعتماد على البيروقرطيّين الحكوميّين.

وأكّد الوزير أنّ الهيئة الهندسية للقوات المسلحة هي التي ستتولى مشروع تطوير الجزيرة وأن ذلك سيكون 'مع شباب الجزيرة' دون الإدلاء بتفاصيل أخرى.

وكان مجلس العائلات لجزيرة الورّاق قد أعلن في أكتوبر/تشرين الثاني عام 2017، أنّهم لن يفتحوا باب المفاوضات حتّى تكشف الحكومة رسمياً عن خطط إعمار الجزيرة. 

حتى هذه اللحظة، لم يتم حسم الأمر.

كنوز من الأراضي

 لطالما ظلت قضية الكثافة السّكّانيّة في القاهرة ملحّةً لعقود. لماذا تتحرّك الحكومة اليوم؟ ولم هي عازمةٌ على التخلّص سريعاً من العشوائياّت؟

تقول الحكومة إنّها ببساطة تقوم بتطبيق القانون بإزالتها للمساكن المقامة بشكلٍ غير قانوني، كما أنّه من مسؤوليّاتها تحويل العشوائيات غير الصحية إلى أماكن صالحة للسّكن.

السبب الآخر الذي تدفع به الحكومة لإزالة العشوائيّات هو أن شوارعها الضيّقة جداً تمنع سيّارات الإسعاف والإطفاء من الوصول إليها، ممّا قد يعرّض حياة الأشخاص فيها للخطر.

يتساءل الكثيرون لم لا تقوم الحكومة بتحسين المباني لتصبح آمنة ولم لا توسع الطرقات عوضاً عن الهدم الكامل؟ فسياسة 'النقل المؤقّت' لأعدادٍ كبيرةٍ من الناس إلى مساكن غير ملائمة بعيداً عن عملهم وأسرهم تسبّبت في مشقّة  كبيرة للكثيرين.

هناك نماذج قائمة تثير مخاوف سكان العشوائيات منها مثال حي رملة بولاق الذي يقع على بعد أمتار من أبراج نايل سيتي (Nile City Towers) التي تضمّ فندقاً من فئة الخمس نجوم ومكاتب شركات رفيعة المستوى. يخوض ممثلون عن سكان الحي معركة قانونية طويلة مع الحكومة للحيلولة دون هدم منازلهم لإفساح المجال أمام توسع جديد لاستثمارات بقيمة عشرات الملايين من الدولارات.  

قدّر العالم الاقتصادي البيروي هيرناندو دي سوتو في دراسته الشّهيرة عام 1997 انّ حوالي 92 في المئة من المساكن في المدن المصريّة و87 في المئة من الأراضي الممتلكة في الريف هي أصولٌ "غير مرخّصة"، ييملكها الفقراء ولكن لا تعترف بها الدّولة. وتقدّر قيمة مجموع هذه الأملاك بحوالي 365 مليار دولاراً أمريكياً بأسعار السّوق اليوم.

يقول المهندس حسين صبّور مؤسّس إحدى الشّركات المصريّة الرّائدة في مجال الاستشارات الهندسيّة والمعماريّة: "تقع العشوائيّات على أراضٍ ثمينة. إذا تمّت إزالتها، ستفسح  المجال لأراض باهظة الثّمن في مصر."

تخطيط من أعلى

عندما عمل المهندس حسين  صبّور مستشارا للحكومة في الثمانينيات، تم التخطيط لإزالة العشوائيّات في وسط المدينة ونقل سكّانها خارج نطاق الطريق الدائري الذي كان يتم إنشاؤه آنذاك. أخبرنا أنّ ذلك كان من شأنه تسهيل سيسهل على الحكومة احتواء أية احتجاجات شعبية محتملة.

"قد يتمرّد سكّان العشوائيّات لأيّ سبب. وسيكون من السّهل احتوائهم عندما يكونون خارج الطّريق الدّائري."

على الرّغم من أنّ العشوائيّات لعبت دوراً محدوداً خلال احتجاجات عام 2011، أو ما يعرف 'بالربيع العربي'  ما زالت وسائل الإعلام المصريّة المحليّة تصف هذه المناطق بانتظام على أنّها 'بؤر للإجرام'.

أتاح غياب الدولة عن بعض تلك الأحياء ظهور نوع من الحكم الذاتي داخلها.

ففي عام 1992، أعلنت إحدى الجماعات الإسلامية المسلحة حيّ إمبابة الشعبي "جمهوريّة إسلامية مستقلّة". وبعد وقتٍ قصير، أرسلت الحكومة الآلاف من قوات الشرطة المسلّحين للقضاء على التّمرّد وإلقاء القبض على قادتها.

عالم منفصل

العالم الاقتصادي والمخطّط العمراني ديفيد سيمز، الذي عاش في القاهرة لمدّة ثلاثين عاماً، أخبرنا عن خاصية التعامل مع مناطق يعيش سكانها عملياً خارج نطاق سيطرة الدّولة.

يقول سيمز :"العشوائيّات مكانٌ رائعٌ في حال أردت أن تعيش خارج نطاق الدولة."

انتقل إلى الجزء الثالث "القاهرة: ياسر يبحث عن إجابة". ياسر عرفات يتحدث نيابة عن أهل منطقة منشية ناصر التي يسكنها حوالي مليون شخص.


المشاركون في انتاج هذا العمل

تحقيق وكتابة: رضا الماوي

شارك في الكتابة: ماثيو تيللر

تحرير: نامق خوشناو - مي عبد الله - دانييل آدامسون

محرر (القاهرة): محمود أبو بكر

المحرر الميداني في القاهرة: محمد طارق

مادة علمية: أكرم يوسف

تصوير: نمك خوشناو - مصطفى حسن

مونتاج: راؤول ساكريستان

غرافيكس: آلبيرت فيلا آلسينا

البيانات التفاعلية: جوش رايمان (التطوير) - أليس غرينييه (تصميم) - ليوني روبرتسون ( تحريرالبينات)

تنسيق المقابلات: أحمد مصطفى